2013/04/24

فنجان قهوة علي باحة الشانزليزيه (مقال)

الدكتور التراد ولد محمد الأمين ولد مدو
في مساء ذلك اليوم الباريسي الجميل عـندما كــانت الشمْـس تـقـتــرب من الغُــروب وكان ضوؤها الساطع يُـعْـطـي السماء منظرا ساحــرا قل أن تــراه في هـذه الفـتــرة، كانت درجــة الحــرارة معـتـدلة وكان الجـو مناسبا للقيام بجــولة في الـبـلــدة الصغيــرة (باريس !!).


قـد يــظــن البعض اني اتحــدث هـنا عن حـضُـور حـفـل موسيقي انعشته كوكبة من النجـوم, او عن حضور مباراة كلاسيكــو بين الريال مدريد والبــرصا؟
قد يــعـتقـد البعــض الآخــر اني ذهبت للتسوق في شارع الشانزيليزيه (Champs-Élysées) ولأتمشى علي جسر الالـما (Pont de l’alma) المحاذي لهاذ الشارع، لأتــناول في النهاية فنجان قـهـوة في مقهي جورج الخامس (George v) علي باحة هـاذ الشارع.


لكن مـهـلا فـلـم يحـصـل هـذا ولا ذاك، ولكــن شيئا آخــر لفت انتباهي وجلست افكـرُ فيه مليًـا - بكــل عفــوية - قـبـل ان أكتب هاذه السطُــور.

هـذه القـصة بــدأت عـنــدما كـنـت اتجـول في مكـتبة (Gibert Jeune) في قــلب العاصمة الفرنسية باريـس بحْــثا عن بعْــض الكـتُـب، ورأيت ذالكم الكـم الهائل من الكتب في شتي المجالات العلمية ورأيــتُ كذالك درجة الاقبال عليها، ومــا اثــار انتباهي حـقـيـقـةً هــو مشهـد اولائـك الاطفـال الـذيــن جاؤو لـيـقْـتـنـوا من الكتب ما يحتاجُــون ويذهَــبُـوا بعــد ذالك بكـــل احتـــرام وهُــدوء، بكــل اختصار يتصــرفـون مـثـل البالغـيـن.
حاولت ارجاع ذاكــرتي لصيــف 2012 عـنــدما كنــت ارتاد المكـتـبــة الوطـنـيـة في العاصمة نــواكشوط، محاولة مــني لعمل مقارنة بين هاتـيـن المكتبتين أو عــلي الأقــل ان اعـثــر في ذاكــرتي علي مشهــد مُـمـاثل في مكتبتنا الوطـنـيـة. لكــن للأســف لم أتـذكــر الا ذالك العــدد القليل من الرواد وأغــلبه من طلاب الثانويات الذيــن يبحـثـون عن مـكـان هادئ للمذاكــرة قبل الامتحانات بأيام قـلـيـلة ولسان حالهم يقول لو كان في امتحاني تأخير لما اتيت هنا, أتــذكــر ايضا وللأسف انك لاتكــاد تجــد من الكتب ما يسُـد رمقــك في المكتبة الوطنية بينما في الأخرى فحــدث ولاحــرج: تـقــف محــتارا أي الكتب تأخــذ لكثرتها وفي شــتي المجالات.

عندها فهمت أن هؤلاء لم يتقدموا لا بمشاهــدة المسلسلات المدبلجة ولا بالحفلات الموسيقية التي تنـعــشـها اليسا او هيفاء ولا بالغــش في الامتحانات ولا بمتابعة مباريات لكلاسيكو.....الخ، بل تقدموا وازدهــر اقتصادهم وارتفع المستوي المعيشي لديهم بالاستثمار في التعليم وبتشجيع الطلاب والمدرسين في مهمتهم السامية لقيادة امتهم الي الامام بخطي ثابتة. فهمت كذالك انه في هاذ العصـر نحن مطالبون بالتقدم في شتي المجالات لنواكب التطور الحضاري، فـمـن السـذاجة أن نحلم أن الآخــرين سيتوقفون في انتظار أن نلحق بهم.
في هـذ السياق أأكد أن الطلاب الموريتانيين في كل مكان أثبـتـوا قــدراتهم وتفــوقهم علي غـيـرهم مع قـلة الامكانيات وقلة الدعـم. علاوة علي ذالك فالغلاف المخصص للمنح لايــتم صـرفه بشكل شـفاف ولا عـادل، فان لم تكــن لديـك وساطة فلا تتعــب نفسك في توثـــيق أوراق ستــرمي في القمامة، كذلك يجب ان تكُـون هنالك مساعدة مالية للطلاب الذين لم يحصلـوا علي مـنح وهـذه المساعــدة قد تكـــون نصف او ربع مبلغ المنحة ، لكن هيهات هيهات فعندما تري نتائج لجنة المنح الموقرة تجد انه اذا لم تقصيك سنك تصبك سهام تخصصك واذا لم تقصيك هاذه الاخيرة فلا تقلق سيجدون لك حتما سببا للإقصاء عن طريق نظام تنقيط جائر يعتمدونه مرة ويتجاهلونه مرات، وهذا كله ليتم توزيع مقاعد المنح علي اصحاب الوساطات، ولربما يكون ما لدي في هاذ الشأن لا يمثل إلا قليلا من حقائق الامور.
وهـذا للأسف واقـعٌ نعـيـشه وكلما جاءت حكــومة انقلابية كانت أو مدنية فســرعـان ما نـتـبـاشــر بان التغيير قـادم ولكن شيئا لم يتغـيـر، علي الرغم من ان التعليم هــو السبيل الوحيد الذي سيخرجنا من تأخرنا الاقتصادي.
كل ما أحاول هنا هو القاء نقطة نور في بحر من الظلمات أو أحداث ثقب في جدار الصمت الذي تعود عليه المواطن الموريتاني بحكم اللباقة والمسامحة التي تجري في عروقه، لهاذا قررت ان اخرج علي صمتي وان اسمع كلماتي من يهمهم الأمر حتى ولو كان بهم صمم.
صحيح ان شنقيــط هي أرض العلم والعلماء, وقد ذاع صيتها في هاذ المجال, ليس هاذ فـقـط فالعــرب والمسلمون كانت لهـم الريادة في شتي المجالات مـن الفـلسفـة للطب للجيـولـوجـيا...... إلخ، فعلي سبيل المثال لا الحصر اليوم وأنا اكتب هـذا المقال اتعجب من المفارقات في كـون الفــرنسيين الذين بلغـوا هـذ المستــوي من التقــدم ، يشهدون علي انفسهم انه عنــدما كان المسلمون يبـنـون حضارة علي بعْـد كيلـومترات من باريس (في اسبانيا )، كان في العاصمة باريس مستشفي واحــد يخلطون فيه جميع المرضي, بينما كان للمسلـمــيــن في الأنــدلس وحــدها 40 مستشفي وكان لكل نــوع مـن الامـراض جناح خاص به لكي لا تـنـتـشـر العــدوي بين المرضي.
في هــذه الفتــرة كان للمسلمـيـن السبْــق والتقــدم في شــتي المجالات العلــمية ولكـن للأسف اخـذ غيـرهــم علمهم وتقـــدمَوا به وطــوروهُ، فلا أجــد تــعبــيرًا أبْــلــغ في ذالك من قـــول الشاعر محمود غــنـيـم في قصـيــدته الــرائعة:

اني تــذكرت والذكـــــري مـؤرقة *** مجــدا تلـيدا بايْــدينا اضعْـــناه
ويح العروبة كان الكون مسـرحها *** فاصبحـت تـتـواري في زواياه
كـــم صــرفتنا يـدٌ كـنـا نُـصــرفها *** وبات يحْـكُمُـنـا شــعْــب ملكـناه

صحيح ان المسلمين تقدموا في شتي المجالات انذاك وكــذالك احـتـلـت شنقـيـط (مركز الريادة في مجالات العلوم الشرعــية والثقافة واللغة....الخ)، فهـذا ماضينا نعتز به إذا استطعـنا ان نجعــل منه حافــزا يدفــعـنا لنحْــتـل من جـديــد مـركـز القيادة, ولكن يجـب ان لا نـبقي دائما نبـكي علي الاطلال لكي نبـكي علـيها، فهـذا البكاء يعتبــر حلا "انسحابيا" بـدلا من ان نبحــث عــن الحل للخروج من هـذ الوضع. يجب علينا ان نقــدم حلا عـمـليا وبخطوات واضحة (كالاستثمار في التعليم وتشجيع البحث العلمي ووضع اهــداف لكل مــرحلة ومُـتـابعـة تحــقـيـقـها)، بــدلا من الاستـســهال واستيــراد الحل من الماضي علي الرغــم من انه قـد يكـون جـمـيـلا وليس تعـلـقـا بموروث بال لا كنه يـظـل حـلا غـيـر سـوي وغـيـر ناجـحْ.

إن هــذا البكاء علي الماضي هو خـيار العاجـز الذي يفضل أن يندب حـظه ويبكي علي الاطلال ويسلي نفـسـه بنـظـريات المُـؤامرة منتـظرا الفــرج من كتب التاريخ متناسيا لا ناسيا أن السماء لا تمـطـر ذهـبا وأن التاريخ لا يُـعـيـد نفسه بنفــسه او بتــرحــمه عليه بل بفعل من قــرر أن يصنعه.
وفي ظــل هـذا الواقع الـذي أتأسف عليه في وطــني من فــساد ورشـوة ومحْــسوبية وقـبـلية وجهوية وووووووو..............!!!
لم أجــد من الحلول إلا أن أرجع إلى مقـهـى George v لآخذ فــنجـان قــهـوتي قبل أن يبرد وأنتظر نهاية ذلك المساء المتعب لأدخــل تــلك المــلاهي الليلية لعـلي الْــتـقـي بأحـد مسؤولينا المـوقــرين لأشكـو إليه أحــزاني وأذرف له آمالي في هــذا الوطن الغالي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق