2012/11/24

مختار يا بدر السنين ..! (أقصوصة)


لم يكن في ثياب المختار شيء يخفيه سوى حب للتي قيل له: إنها خيال !، فهو يحس أثناء اللحظة التي يقف فيها أمام العلم بزيف تلك الشعارات التي حملها الخارجون و"المصححون" في آن واحد، والذين سبقوا إلى الخيانة والانقلاب، كما أنه يتذكر ذلك اليوم وقد نظر من نافذة الطائرة إلى تلك الكثبان الرملية المتهدبة تحت ضوء الشمس كتجاعيد ملأت جبهة شيخ حكيم ذا تاريخ طويل في الصبر على الظروف، وقرر النزول هناك.


مختار يا بدر السنين ..! (*)


بقلم: المختار محمد يحيى


أمام العلم ترتجف قدماه كلما زاره مودعا موريتانيا إلى أن يعود إليها، خوفا من أن يكون مغادرا بلا رجعة، وهو الذي أحس في كل مرة أنه مغادر بدون أن يصنع لها شيئا، راجيا من ربه أن يعود لينهي ما بدأ ..!، لكنه هذه المرة أحس برعشة أقوى تسري في جسده، وهو على يقين من أنه مودع لا يأمل العود، وإن كان ذاك عكس ما يتمناه كي يعود ابنا بارا ليحتضن والدته التي أحب ويقبل رأسها، ويمسح بظاهر كفيها على خده.


أمامه ..كانت السارية ترتجف ـ هي الأخرى ـ متمايلة على جنبيها كأنها تلوح له مودعة، في حين تمسك بها المنصة الإسمنتية والتي نصبت عليها، وكأنها تبذل في ذلك أقصى مجهود لها، والعلم ليس ببعيد شامخا في الفضاء اختار أن يتوقف عن الرفرفة للحظة من وقته الثمين، وينحني شاهدا له على مسيرة طويلة جمعته بأول رئيس عظيم لشعب شنقيط.


خلف الصخور التي كان بينها صلبا، وبين الكثبان الرملية البيضاء التي عكست بياض قلبه، جلس حذو واحات نخيل "تيشيت" ليأخذ رشفة ماء بارد من عين مثلت هبة الرحمن، كأنه بعد كل تعبه في جعل وطنه دولة حقيقية يكافئ بما تجود به هذه الصحراء والتي عادة لا تجود إلا لمن عرفته وأحبته وصبغت بلونها جلده وفكره، بعد أن تلفحه شمسها الساطعة، .. هذا ما كان قد عرض على باله، متهاديا من رفوف ذاكرته، لحظة وداعه للعلم، متذوقا ماء أعماق الوطن العذب بين شفتيه والذي ظل نداه هناك بدون أن ينجلي على مر الأيام والسنين.


صوت هدير قوي يقترب ـ عبر الأرض ـ من الرجل المرتدي بزة رسمية رمادية اللون، ويضع نظارات شمسية، عكست عدستاها صورة الغروب، ولوهلة استعارت الأرضية من قدميه الارتجاف، ذلك صوت طائرة "الرحيل" التي يركبها المختار ولد داداه ـ مكرها ـ، ... هي الطائرة التي تزمع أن تقله إلى حيث يحس بالغربة، ويطالب بدفنه ـ بعد وفاته ـ في أرض إسلامية، هي الطائرة التي تهم بإبعاده عن أرضه وأهله الذين مثلوا حبه الأول والأخير.


كل اللقطات مرت ببطء شديد في عينيه، وكذلك مرت في صفحات ذاكرته الذكريات، وقد تصفحها باكيا ـ في نفسه ـ على بعضها بكاء الرجال الذي لا يظهر، ويهتز له ألف جبل وجبل ـ لو عُرِّضَ له ـ ، وضاحكا عند أخرى محولا تلك الابتسامة المرتسمة على محياه إلى طاقة جبارة تساعده في صبر اللحظة التي أحسها أثقل على صدره من أي لحظة عاشها في حياته.


أيادي المصافحين أخذت معها ـ في تفاصيلها ـ الكثير منه، لأنه حين يصافح مودعا عاملا بسيطا في المطار ـ اعتاد أن يودعه في أسفاره قديما ـ أحس أنه ترك خلفه جزء من شخصه وروحه وقلبه وعقله، لأنه وادع جزء من الوطن، فكيف يحس حين يفارق كل الوطن ؟!!!، كيف يحس بوادع السهل والكثيب والجبل ويغادر ضفة الشاطئ والحقل إلى حيث لا أحد يعرف؟!!!، كيف يغادر بيئات شكلت وطنه، وبنت من ثقافاته المتنوعة ثقافة لا مثيل لها، كيف يعيش في مكان لا يصلي فيه كما اعتاد بجامع ابن عباس الذي شيده، كيف لا يجد أحدا يبادله تحية بالحسانية، ولايسمع في ردهاته أهازيج النساء والرجال من شعبه، وأهازيج السهول والرمال والتي سرت في عروقه ـ من قبل ـ حين يتجول في الوطن؟!!!، ولا مكانا يتذوق فيه كأس شاي ـ ذهبية ـ بالنعناع ويتناوله مع خبز "أبي تلميتي" مصنوع على الحطب ؟!!!.


كتبت بنواكشوط بتاريخ: 23ـ11ـ2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ العنوان مستوحى من قصيدة للشاعر المبدع ـ شاعر موريتانيا ـ أحمد ولد عبد القادر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق