2012/09/25

حين تحلم حواء ..! (قصة قصيرة)


المختار محمد يحيى
في صباح يوم جميل وتحت أشعة الشمس الخافت ضوئها بسبب الغيوم الرقيقة المتشابكة في السماء، وحيث لا يسمع صوت البلابل ولا العصافير، كانت تجلس فتاة في بداية عقدها الثاني أمام بيت أهلها المطل على شارع السوق الكبير، في نواكشوط، تسترق السمع من بين أصوات هدير السيارات المارة، وضجيج هتاف الأطفال الذين يلعبون على جنبات الشارع، وتتابع شريط وعظ ديني تبثه مكبرات صوت أحد محلات الأشرطة البعيدة داخل السوق... إنها حواء فتاة في الثالث عشرة من عمرها، والتي تدرس في السنة الأولى من الإعدادية...



هي الآن صارت تحس أكثر من أي وقت مضى بالمسؤولية حيث انتهت من الابتدائية وانتقلت إلى مرحلة أخرى تكون فيها أكثر وعيا بضرورة الاجتهاد في الدراسة حيث انقطع ذلك التوبيخ مع انقضاء الابتدائية ... ذلك التوبيخ الذي كان يؤثر فيها ويحثها على الاجتهاد وحفظ الدروس والقيام بالواجبات المدرسية...

كانت حواء طامحة إلى أن تكون شاعرة مبدعة ...هي تحب الشعر كثيرا... تقوم بحفظه في تجلياته من شتى البحور من أجل بداية تجربتها الشعرية وموهبتها التي ما زالت جنينا لم يولد بعد ... كان هذا عالمها الصغير، والذي تحلم فيه حلم الطفولة البريئة... هو بذرة تزرعها حواء في بداية حياتها الأدبية ...

لا تزال حواء جالسة في الخارج مركزة على ما يقول المحاضر الواعظ، فإذا بصوت أمها يكسر كل جسور الصوت التي بنتها لتسمع المحاضرة:


ـ حواء !... يا حواء ... ! .. أووووه.
ـ نعم ... نعم !
ـ كفاك من الخارج ... ماذا يقول الناس ..؟ بنتنا تسكن في الشوارع ..!!!

تقوم حواء من على قنينة الزيت الصفراء الكبيرة التي كانت تجلس عليها وتلج المنزل بترنح منزعجة، على وجهها ابتسامة غريبة لا يمكن أن تدل على الفرح.
قالت وهي تضع يدها على خاصرتها:

ـ أماه ..! أنا أتابع محاضرة لـ "الشيخ سيد قطب".
ـ أي شيخ ..؟ وأية محاضرة؟ ... ليس فرضا عليك أن تستمعي لمحاضرة وأنت في هذه السن المبكرة، وإن كنت لابد لك من محاضرة افتحي التلفاز ... محاضرة ! ... محاضرة ! ... "بنات آخر زمن"...!.


تسكت حواء وهي التي اعتادت طاعة والدتها "خدي" في كل شيء، وتجلس كأنها تفاحة متهادية من علو شاهق مصدرة صوتا على الأريكة، كان ذلك تعبيرا عن نوع من الامتعاض، في نفس الوقت تمد يدها لتشغيل التلفاز الصغير الموضوع على الأرض في بهو المنزل..



خدي تخرج من المطبخ تنفض يدها بعد غسلها... وتجلس بمقابل حواء كأنها ستوجه إلها خطابا وعظيا بديلا !، مما جذب انتباه حواء وجعلها تترك التلفاز مطفئا، وتتوجه بنظرات حائرة إلى أمها وهي تبادلها بأخرى تخفي ورائها موضوعا مبهما ـ على الأقل ـ بالنسبة لحواء.

ـ حواء ..! لقد صرت امرأة كبيرة يجب عليك الاهتمام بنفسك ...


كانت هذه الكلمات جديدة على الفتاة .. وتتسائل في نفسها بسرعة: لمذا تقول لي إنني قد صرت امرأة؟ هل للأمر علاقة بجلوسي في الخارج؟ ... أليس عليها إذا أن تتركني أستمع إلى المحاضرة إذا كنت فعلا قد كبرت؟ وبينما تغوص حواء في بحر من الأسئلة اللآمتناهية، تواصل خدي ولكن بصوت منخفض:

ـ هل تعرفين محمد بن أهل إبراهيم؟
ـ نعم..!
ـ إنه سوف يأتينا الليلة ليتعشى معنا...

تقاطعها حواء:

ـ هل سيأتي وحده؟ ... لمذا لا تأتي معه أخواته؟
ـ لا لن تأتين، فهو قادم بمفرده ليسلم علينا، ويجب عليك أن تظهري أمامه بمظهر جيد لأنك من سوف يصنع لنا الشاي.


تمر ساعات وحواء منهمكة في تفكير عميق لا يصل إلى نتائج باحثة عن سبب هذا الخطاب الذي قطعت من أجله أمها عملها في المطبخ لتحدثها إياه.
على حين غرة تدخل خدي على حواء غرفة المعيشة (الغرفة الثالثة في المنزل بعد غرفة النوم والصالون) وبيدها علبة مساحيق وأحمر شفاه وفي يدها الأخرى ملحفة حمراء تمسك معها زجاجة عطر.


ـ حواء ...! خذي هذه الأمور، ودعي أختك عائشة التي ستصل بعد دقائق تساعدك في وضع هذه المساحيق ودهن وتسريح شعرك الأشعث.


بعد ثلاثين دقيقة يدق الباب فتقوم خدي لفتح الباب عن الزائر... إنه محمد دخل وجسمه يغلق الباب ـ تقريبا ـ ، أو بالأحرى فضفاضته الزرقاء المتصلبة والتي تجعل من منكبيه كبيرين، مبينا عن يدين كبيرتين رفعهما للسلام، قائلا بعده:


ـ كيف الحال والأحوال؟ "إياك لا بأس؟"
ـ الحمد لله.. لا بأس..!
ـ إشطاري فيكم؟ إياك الخير؟"
ـ معافون فتبارك الله .. وبخير .. متنعمين، "إش حال الأهل؟".
ـ معافون فتبارك الله ... يسلمون عليكم.
ـ تفضل .. مرحبا بك


يدخل محمد الصالون متقدما بخطوات واثقة، في حين تبدأ رائحة عطره المركزة تنتشر في طريقه لتخفي رائحة البخور الذي بخرت به خدي المنزل، تذهب خدي إلى المطبخ لتحضير الشراب، واضعة فيه الثلج الذي أشترته للتو من الدكان المجاور لبيتهم، وفي طريقها إليه تمر على حواء في غرفة المعيشة وتقول لها:


ـ ارتدي ملحفتك الجديدة وضعي الكثير من العطر.

تقف أختها عائشة منبهرة من جمال حواء وقد تزينت بما لدى أمها من زينة، متذكرة أيام تجهيزها للعرس وكم كانت جميلة، نضرة الوجه، على محياها سمات البراءة والصفاء والنقاء... ذلك الجمال الذي تبدد وراح أدراج الرياح بعد سنوات قليلة من الزواج.


تسلم خدي لحواء سفرة الشراب لتقدمه إلى الضيف... لكن حواء تبقى مبدية الرفض لقرار والدتها المفاجئ إلا أن أمها تفرضها عليه، تتقدم حواء لتدخل الصالون وعيناها الواسعتين مشبعتان بالحياء من النظرات التي أرسلها محمد مذ أعتبت باب الصالون... تمد له كأسا زجاجيا مملوء بالحليب الرائب بيدها اليمنى وقد تدلى منها خرز الأساور التي تضعها، كاشفة عن يد صغيرة ناعمة.
يقول محمد:


ـ "إش حالك حواء ..؟ سافا ..!
حواء بكل أدب وحياء:
ـ لا بأس الحمد لله.
ـ كيف حال الدراسة؟ "إياك كانت زينه؟".
ـ لا بأس الحمد لله.


بدت حواء تجيب الضيف بعبارة واحدة، وبدون أن تبادر وتسلم أو أن تسأل، مما جعله يستلم زمام المبادرة والحديث من جانب واحد... شعرت حواء بشيء جديد يغير أسلوب محمد اتجاهها، وهي التي كان يعتبرها الطفلة الصغيرة من قبل، شعرت من سذاجتها أنه صار يحترمها كونها كبرت كما تقول أمها... ثم فجأة يأمرها محمد بالجلوس مبررا ذلك بالسلام وتبادل أطراف الحديث، وفي نفس الوقت تشير لها أمها التي تقابلها من الباب بالجلوس.. تجلس على الأريكة المقابلة للأريكة التي جلس عليها، و واصل محمد الخوض في حديث عن أيام دراسته والتي يتذكرها بأنها أيام صعبة إلى أن قطع دراسته، وغير الموضوع ليتحدث عما حققه من خلال عمله في سمسرة السيارات.


ـ ... هل تعرفين سيارتي التي أملك؟

تهز حواء رأسها مومئة بأنها لا تعرف.

ـ لقد اشتريتها بمليون وخمس مائة ألف أوقية ... إنها من نوع مرسيدس مائة وتسعون،...

يواصل محمد سرد ما حققه وما اشتراه وما وفر لأهله من منزل ودخل يغنيهم عن الغير، في نفس الوقت لا تحس حواء بأي تفاخر في لهجة محمد بل أعجبها لأنه غيٌر واقع أهله من فقر مدقع إلى استغناء عن الغير، ورغد عيش، أحبت لو يحصل مثل ما حصل مع محمد لأخيها إبراهيم الذي يعمل في مدينة نواذيبو (العاصمة الاقتصادية) ويشتري لهم منزلا لينتهوا من الإيجار الذي أثقل كاهله وأمه، والذي يدفعه زوج أختها الآن بعد نهاية كل شهر، ... أختها الكبيرة والتي قطعت دراستها باكرا بأمر من والدهم المتوفى لكي تتفرغ للزواج ومشاغل البيت وهي في سن الثالثة عشرة من عمرها.


كان حديث محمد مازال متواصلا عارضا ما يتمتع به من ممتلكات ومن ميزات وقدرات، بينما كانت حواء مشدوهة البال تفكر وتتخيل وتتمنى..! فجأة تقطع والدتها حديث محمد قائلة لها:


ـ حواء .. ألم تصنعي الشاي بعد لقريبك ؟... أواني الشاي بقربك خذيها وأصنعي شايا شهيا.
تبادل حواء يديها رافعة واحدة وخافضة الأخرى بعد أن بدأت صنع الشاي لملئ الكؤوس بالرغوة من خلال شلال ذهبي يقتحم الكأس مخلفا فقاعات بيضاء ناصعة بعد ارتطامها بداخل الكأس، وتتراكم الفقاعات معطية لعنق الكأس شكلا مميزا... لم يهدأ محمد إلا عن الكلام فلقد استمرت نظراته المتفحصة التي لم تتوقف إذا ضبطته عيناها لحظة،... حاولت حواء عدم فهمها على ما تبدو عليه، إلا أنها لم تستطع أن تخفي عن نفسها حقيقة أرادت عيناه إيصالها وهي أنه يفكر فيها ...بل ومعجب..!.


تنتهي الليلة وتمر أيام ... تمنع خدي حواء من الذهاب مطلقا إلى الإعدادية كون الدراسة ـ حسب رأيها ـ غير مهمة للفتيات، ولم يردع الأم عن ذلك رجاء حواء بطموحها لأن تكون مدرسة ومثقفة شاعرة:

ـ ليست عندنا بنات يقلن الشعر ولا يذهبن إلى الدراسة في سنك يا حواء.

بل تضحك الأم كلما تذكرت تلك المقولة، قائلة:


ـ الفتيات والنساء! ... للزواج ... والبيت وتربية الأولاد.

تحس حواء بحقيقة مريرة، مكتشفة أن هذا هو الذي كانت تخطط له أمها منذ أيام، والذي خافت من أن تكون عواقبه وخيمة كهذه.

تواصل الأم خطابها بعد دقائق كأنها ستعلن "استقلال فلسطين" قائلة:


ـ لقد خطبك محمد مني، و وافقت و وافق أخوك...

تنبري حواء منصدمة من هول الخبر ... واضعة يديها على فمها متفاجئة ومستغربة المرحلة التي وصلت لها أمها وبدون أن تدع لها فرصة:


ـ إنه شاب جيد ... وله الكثير من المال وأهله أقاربك وهم طيبون ... إن كل بنات عمك تتمناه... سيتغير حالنا إذا تزوجت منه إن شاء الله...!


تبدأ حواء في بكاء شديد، وهي التي أحست بأن أكثر من كان ضدها في حياتها .. أمها، لأنها لم تهتم بطموحها ولا برغباتها، بل يفرض عليها الزواج مبكرا قبل أن تبدأ التفكير فيه، متحسرة على فراقها للدراسة ولزميلاتها اللواتي كن يعتبرنها المثال الأعلى في الدراسة والتفكير...، تدخل أختها الكبرى "عائشة" قائلة:

ـ مبروك ... ألف مبروك.

تفاجأت عائشة من بكاء أختها الصغرى حواء .. مستفسرة من أمها، عما إذا كان هناك ما يؤلمها..! فردت عليها:

ـ إنها تبكي من الفرحة.

كانت عائشة قد تجرعت مرارة أن تتزوج في سن مبكرة، وبما يحرمها ذلك من عيشها مرحلة الطفولة ... فلقد صارت لديها قناعة بداخلها بأن هذه نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة الرشد والتعقل ... بعد يومين كانت الدعوة إلى زفاف محمد وحواء قد عمت كل الأقارب والجيران ... كان كل المدعوين للزفاف مسرورين كون الزواج يجمع بين شخصين محبوبين ... إلا أن هذا الشعور كان بعيدا كل البعد عما تشعر به حواء ... ألم وحرقة تخالج قلبها، ومرارة تعصر كبدها ... بسبب ما حاكه لها أهلها... راضية لضعف حيلتها، إلا أنها في نفس الوقت لا تتمنى أن تشعر فتاة أخرى في بيت آخر بما شعرت به من قتل لحريتها، وقطف للزهرة التي غرستها ولم تترك لتنمو.


حواء تحس بأن ذاتها وحق اختيارها وبما تحب من مستقبل، قد مات بداخلها... تغرب شمس ذلك اليوم خلف أفق المحيط الأطلسي، وتتوقف الضوضاء في المدينة معلنة عن مجيء ليلة هادئة ورطبة تنظف من خلال نداها ما نزل من غبار على ملامح بنايات تلك المدينة في ذلك النهار.

هناك تعليقان (2):