2013/01/17

مدخل إلى نقد الثقافة الموريتانية / المختار محمد يحيى (مقال)

<<..ليس من المعقول أن نستقبل في أذهاننا حقيقة أن شخصا نشأ وترعرع ودرس وكتب وألف يموت بدون أن يعقب علما ينفع، أو بدعة مفيدة لذكره ولمستقبل بلاده تشفع، وليس من السهل علينا أن نتصور حال ذلك الشخص الذكي متوقد الذهن تطفئ أفكاره حين تجتر وتستهلك ثم تنسى ويكون مصيرها الإهمال أو التلف، بدون أن ترفع وتـُنص لتأخذ قيمتها، وتلقى حقها في البناء عليها لا هدمها..>>



 مدخل

         تعد موريتانيا من أهم الدول العربية والإسلامية في امتلاكها تراثا ثقافيا وحضاريا عظيما وزاهيا، عزز عظمته تشبع عقل العالم أو المثقف الموريتاني القديم بكم كبير من المعارف المتنوعة والتي جاءت مع الإسلام، وكانت تدخل كل خيمة موريتانية شاءت ذلك أم أبت، فتعرب جل السكان الأصلين، وأسلموا كلهم بعد استقبالهم للعرب الحاملين لتعاليم الدين الإسلامي، والوافدين عبر مراحل تاريخية متعددة من شبه الجزيرة العربية وشمال شرق إفريقية، فبنيت الحضارة الشنقيطية على التقوى والعلم.

وشملت الثقافة الموريتانية كغيرها من الثقافات الإنسانية، الثقافة في وجهيها العامي والعالم، وكانتا ثقافتين زاخرتين بكم كبير من الآداب والعلوم والفنون، تبعا لتنوع الروافد التي سكبت في رحابها من معين الحضارة العربية والإسلامية، وملابسات الحياة الإفريقية والبربرية  التي شكلت أساسا خصبا يستحق من الدارسين والباحثين التطرق لها، بل والاهتمام بها بشيء من الأناة.

وحسبنا ـ هنا ـ في هذه الورقة قبل أن نفرد للموضوع بحثا علميا في المستقبل ـ إن شاء الله ـ أن نشير إلى نقاط تستحق النقد في منظومة التاريخ الثقافي القديم والحديث وإن كانت (الورقة الخاصة بموقع أنباء الركيز) قد كتبت بشكل لا يساير المنهج العلمي والأكاديمي في النقد الثقافي ولا التاريخي، ولا تحيط بعالم الثقافة الواسع، والذي يشمل مجمل الفنون والآداب والعلوم، ومن أنماط الحياة، وطرق التفكير والأزياء والمأكل، والصناعة والمعتقدات والمسرح والسينما..إلخ، ولكنها ورقة تلخص بسرد بعض الظواهر الثقافية بشكل جد مختزل، محاولة تشخيص المعضل تيسيرا لبلورة حل له.

ضياع جزء كبير من التراث الثقافي المادي لموريتانيا

ليس من المعقول أن نستقبل في أذهاننا حقيقة أن شخصا نشأ وترعرع ودرس وكتب وألف يموت بدون أن يعقب علما ينفع، أو بدعة مفيدة لذكره ولمستقبل بلاده تشفع، وليس من السهل علينا أن نتصور حال ذلك الشخص الذكي متوقد الذهن تطفئ أفكاره حين تجتر وتستهلك ثم تنسى ويكون مصيرها الإهمال أو التلف، بدون أن ترفع وتـُنص لتأخذ قيمتها، وتلقى حقها في البناء عليها لا هدمها.

فلطالما كانت كتابات الموريتانيين عاكسة لدرجة المعرفة والخبرة العلمية والروحية التي تحتويها عقولهم وقلوبهم، فمن من العلماء الموريتانيين الأوائل لم يجمع بين دفتي كتاب ما تيسر من العلم الذي ألم به وجمعه طوال حياته؟، ومن لم يشرح ما ظنه عصيا على عقول ذويه ومواطنيه وضمنه كتابا مستخدما في ذلك كل معارفه النحوية، والفقهية، والرياضية، إلى جانب ثقافته العامية وتجاربه الحياتية؟

إن سبب تقاعس الثقافة العالمة في موريتانيا عن مستواها في القرنين الـ 10 و 11 الهجريين إنما هو تدني الاهتمام بالموروث الثقافي المادي الذي ضاع جله في مكتبات أصحابه الأصليين المهترئة ـ بفعل التقادم ـ  وفي طيات صفحات التاريخ، وترك ما كان الأجدر به حفظه في عراء تنفخه الرياح، وتمجه عوامل التعرية وتلفحه الشمس على مر السنين، مما أدى إلى تلفه وتآكل ما بقي منه.

ولم تكن موريتانيا تستطيع ـ بوصف معظم سكانها بدوا رحلا ـ الحفاظ على تلك النفائس العلمية والفنون الأدبية المدونة، والتي كانت أقل بكثير من العلوم المحمولة في صفحات الذاكرة والمتداولة عن طريق الشفاهية، قبل أن يتكفل النسيان وتدني نسب الانتقال من جيل إلى جيل بضياعها.

كما أن التدوين والطباعة بقيا غائبين بشكل كبير في العصر الحديث ـ إن استثنينا المطبعات الخاصة والبدائية غالية الثمن ـ حيث لم تقم الدولة بأية مشاريع لتدوين ما هو عرضة للضياع وطباعة ما وجد من المخطوطات العلمية والأدبية، والتي تملأ دور الأسر والعائلات التي لها تاريخ مع العلوم تبحرا وتدريسا، وبقيت آلاف المؤلفات والمصنفات في علوم القرآن والحديث النبوي والفقه واللغة والأدب والحساب والفلك والتاريخ والأنساب... الخ، رهينة رفوف قسم المخطوطات في المكتبة الوطنية بنواكشوط، وعرضة للضياع إذ تتلف مئات المخطوطات بسبب سوء الحفظ، وتعامل اليد غير الرفيقة بها اتجاهها من باحثين ودارسين بل ومن عمال المكتبة.

كما أن ضياع تاريخ موضوعي حقيقي قائم على الوثائق التاريخية الدقيقة شكل عامل غموض لمراحل الثقافة الموريتانية بشكل أكثر وضوحا مما هي عليه الآن، وجاء سوء الإطلاع ـ وعدمه ـ على كثير من المخطوطات المهملة والوثائق التاريخية ذات القيمة، عنصر تجاهل للتاريخ في مظانه، وجعل الموريتانيين يجهلون كثيرا من ماضيهم بسبب سوء التحليل والبحث والتنقيب داخل المدونة المخطوطة، والتي تضم في ثناياها وبين صفحاتها وثائق تاريخية ذات قيمة، يستطيع المؤرخ الموريتاني ـ المحدث ـ أن يبني عليها من أجل استكشاف الماضي العريق لبلاد شنقيط الذي أضاءته المعرفة ومدن التجارة التي كانت طريقا ومحجا لطلبة العلم القادمين من الصحراء المترامية ومن الجوار العربي والإفريقي.

قلة المكتبات وضعف استخدام التقنيات الجديدة

إن الناظر لتاريخ بلاد شنقيط، أو موريتانيا حاليا، لا شك سيعرف ـ إن درس مليا حالة الثقافة العالمة، ـ أن التداول والاجترار والاستهلاك شكلا المظاهر المائزة لهذا المجتمع المثقف، ثقافة عالمة تقليدية.

أما في العصر الحديث فموريتانيا تعاني من معضلات ثقافية جمة، منها الضياع بين ماض مشرق بالثقافة والمعرفة ومثل ذلك التراث، وحاضر تحفه الحضارة والحداثة ولم يحظ بكثير منها، وكان أقوى هذه المعضلات أثرا غياب كبير للمؤسسة العامة حين تركت دورها المحوري في التطوير والتكوين لبناء أرضية صلبة عليها يبنى الصرح الموريتاني الجديد، وعليها تستند الهوية العربية والإسلامية الهامة بالنهوض، والمتكئة على تنوع الثقافات المحلية.

ولعل غياب المؤسسة كان سببا قويا لقلة مظاهر الثقافة المعاصرة الحقة، فكان ذلك دافعا إلى ضيق رقعة المطالعة بين صفوف الموريتانيين، وانعدام ثقافة المطالعة إنما يدل على تداول المتوفر من علوم ومعارف ـ من ناحية المثقف ـ آتية من الذاكرة عبر عقول العلماء الرواة والمحدثين، والمعتمدين ـ كما اعتمدت ثقافتهم ـ على الشفاهية، متناسين أو جاهلين لوسائل العصر التي وفرت الأجواء المثالية للإطلاع على حديث الاكتشافات وجديد المؤلفات.

ويمكن أن نحسن الظن بهم حين نعتبر أن واقعهم ما زال مختلفا ومتخلفا إلى حد كبير عن ركب عالم المعرفة الحديث، والذي وفرته هذه الثورة في عالم المعلومات وفتوح الشبكة المعلوماتية العنكبوتية "الانترنت"، والتي ما يزال استخدامها ـ إلى حد كبير ـ محصورا في زاوية ضيقة، وخاصة عند الشباب.

ولم يكن المواطن الموريتاني العادي، ولا المثقف العالم إلا مفعولا به في كثير من الأحيان، حين تم تهميشه بشكل أو بآخر، ولعل ذلك التهميش عرف أوجه بالسياسات العامة الضعيفة والمفتقدة للوعي والخبرة، وكانت قلة المكتبات في موريتانيا بشكل عام الملمح البارز، حيث تعد مكتباتها (المكتبات الشاملة) على أصابع اليدين، فكيف بمكتبات العاصمة نواكشوط والتي تحوي جلها بالنسبة للبلاد، كذلك كانت التوعية بضرورة المطالعة غائبة بالموازاة مع غياب سياسة جادة مصممة تؤمن بأن الطريق إلى التقدم والازدهار يكمن في الثقافة والوعي.

التعليم لا يساهم في نشر الوطنية

وحال التعليم ليست أحسن من حال ملتقيات المثقفين والمكتبات، فحتى بعد مرور 52 سنة على الاستقلال ظل التعليم الموريتاني عاجزا عن تكوين مجتمع متماسك يحظى بثقافة واحدة كبيرة تضم تلويناتها المحلية تبعا لتنوع الثقافات والبيئات الأصلية، وظل الشرخ في الهوية قائما بين متعلمين باللغة الفرنسية يفكرون بها ويرون المستقبل بمنظور فرانكفوني، وآخرين تعلموا بالعربية التي هي اللغة الرسمية للبلاد ـ حسب الدستور ـ، وظل الفريقان في تنافر ثقافي كبير، أذكاه وزاد من حدته الانقسام الإيديولوجي والتنوع العرقي، وخفف من حدة ذلك التنافر ـ في المقابل ـ اعتناق كافة المواطنين الموريتانيين دين الإسلام بتعاليمه السمحة.

كما أن التعليم المدرسي لم يقم بمهمته الثانية بعد التدريس والتلقين والتي عليه أن يقوم بها وهي: تنمية الإحساس بالوطنية، وتجذيرها في وجدان وعقول الأجيال الجديدة، فكان النشيد الوطني بعيدا عن فهم الطلاب له، إذ لا يشعرون فيه بالانتماء لوطن يذكر، أو أرض يتغنى عليها فيه، ولا بميزات علم تلتصق بأذهانهم، وتمثل أمام أعينهم صوره حين يذكر الوطن، بل كان نصا لغويا ذو مغزى وعظي بحت غابت فيه الإشارة إلى الوحدة بين مكونات المجتمع، واستعصى فهمه على غير المختصين في اللغة العربية، كما يقف تقديسه ـ عند كثر ـ حجر عثرة أمام المطالب الداعية إلى تغييره بنشيد آخر يكون أكثر استجابة للدور المنوط به.


الجهة والقبيلة في المجتمع الموريتاني

وبطبيعة المجتمع الموريتاني البدوية التي طبعتها حياة الصحراء والفيافي والأرياف، فإن الموريتاني عاش حياته بدويا سواء أكان في البادية أو في المدينة لأنه وبكل بساطة لم يعي ضرورة العيش بأسلوب حضري أو مدني، فلا يرتبط وجدانه برقعة من البلاد العريضة سوى بقريته أي البادية التي نشأ فيها، ويرتبط بها أينما ذهب والعاصمة عنده غربة ما بعدها غربة، ومثال ذلك: غفلة جل المواطنين عن أهمية الحفاظ على إتباع القوانين المعمول بها، والمحافظة على نظافة المدينة إضافة إلى مصالحها العامة، لأنهم يعتبرون أنفسهم ضيوفا عليها، لا يريدون إلا مصلحة تنفعهم وتسد جزءا يسيرا من حاجيات ذويهم في البادية.

لذلك ظل الموريتانيون يرتبطون بالمناطق التي ينتمون إليها، وبالجهات والقبائل، فقد يسأل الشخص عن قبيلتك قبل أن يسأل عن اسمك، وبذلك تتغير ردة فعله حسب قانون القرب الوجداني "القبلي" والجغرافي "الجهوي"، ويرد كثيرون سبب تلك النزعة الجهوية والقبلية إلى الماضي الذي عاشته موريتانيا في النظم القبلية لما فيها من مركزية شيخ القبيلة، والدور الكبير الذي يلعبه بوصفه رئيسا للقبيلة يفض النزاعات، ويبرم اتفاقيات السلام، مع الأصدقاء والحلفاء، ويعلن الحرب أحيانا ضد من وقف في وجه مصلحته أو مصلحة قبيلته أيا كان، لذلك فالمجتمع الموريتاني ورغم تأسيس الدولة المركزية منذ استقلال البلاد عن المحتل الفرنسي سنة 1960م وحتى الآن (2013) ما تزال القبيلة لاعبة لدور كبير في شأنه المحلي ـ على الأقل ـ علما أنها لاعبة لدور سياسي كبير وخاصة في فترات الإنتخابات، نظرا لقدرتها على إمالة كفة أحد الفرقاء المتنافسين إن هي دعمته، ولقد عرف عن فترة حكم "الكولونيل" الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع والتي دامت مابين 1984 ـ 2005  تجذيرا لمفهوم القبيلة حيث تمت استمالة زعماء القبائل والنافذين فيها لحثهم على دعمه في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بسياساته.

محاولة الفنان مسايرة تطور الفن في العالم

وليس الفن ببعيد عن مجهر النقد، فلقد شاءت الأقدار أن يبقى الفنان الموريتاني على سجيته مقلدا ـ وفق المبدء الكلاسيكي ـ لمن سبقوه، ويكون في قمة إبداعه عندما يبدع في تقليد الأوائل من الفنانين واللذين يؤرخون لأصله بأنه قادم من فن العصر العباسي وخاصة من الموصل (العراق)، وكأن الموسيقي والمغني في موريتانيا بوقين فتحا أثناء مر صفحات كتاب تاريخ الفن الموريتاني، فنقلت لنا همسات المغنين ورنات أوتار الموسيقيين، وإن في ثوب جديد حسنت من نوعيته أجهزة ومعدات أحدث ـ بقليل ـ من القديمة، دون عناء كبير في محاولة التحديث والتطوير للأساليب الفنية، بل ويرى كثيرون من الفنانين خطورة تطويرها متذرعين في كثير من الأحيان بأنه مدعاة إلى ضياع التراث، ولكن الحقيقة الحقيقة في ذلك أنهم ينتمون إلى ثقافة تقليدية تراعي الماضي بوصفه مقدسا لا يجوز تحريكه ولا مراجعته ولا اختطاط طريق مغايرة لطريقه، فالماضي من وجهة نظرهم أفضل من المستقبل.

ولقد عرفت حركة الموسيقى في موريتانيا منذ تأسيس الدولة "المدنية" حتى سبعينات القرن الـ 20م إرهاصات تنبؤ بتغيير وتطوير، شمل ذلك دخول آلات موسيقية جديدة انضافت إلى الموروثة، ولكن لم تلبث أن اختفت وجمدت تلك المبادرات بعد كيل التهم لها بالاندفاع وراء الموضة الغربية، كما عرفت موريتانيا في العصر الحديث بوادر تحديث على مستوى الموسيقى وأساليب الغناء، كانت جديدة على المجتمع الموريتاني، ولم تعهدها الأذن الموسيقية المولعة بالتقليد، كان أكثر المنطربين لها من فئة الشباب وبقيت في مجال ضيق مقارنة بالكم الكبير من الأشرطة والأسطوانات والأقراص المدمجة الباعثة للماضي، والتي بدأت تشغل بصيغ الكترونية مع مجيء الهواتف الذكية، والمشغلات الرقمية ذات الذاكرة "السيليكونية" MP3.

كما أن جديدا قد طرق الساحة الفنية الموريتانية ممثلا في فن النشيد الإسلامي والمتتبع لموضة الأناشيد العربية والإسلامية والتي تنتشر على نطاق واسع في المشرق العربي، لا شك سيعرف أن للفن جمهورا عريضا، وحال هذا النشيد الإسلامي الموريتاني ليست بعيدة من حال نزوة التحديث الموسيقي السابق ذكره، إلا أن النشيد ما زال مستمرا، ومؤشرات نجاحه بادية شيئا فشيئا، لكنه هو الآخر محصور في نطاق ضيق اختص به أصحاب الفكر الإسلامي في موريتانيا في ظل غياب للرعاية الرسمية له من أجل تطوريه، وبغض النظر عن احتواء الفن الموريتاني التقليدي الأصيل على أنواع منه (النشيد) نستطيع أن نطلق عليها تجوزا نشيدا، يمكن أن نعتبر النشيد الحديث تطورا وبعثا حديثا للفن القديم، ولكن بشكل جديد، وكان القديم مشتملا الغناء الوعظي والإبتهالي والمديحي، تبعا لأساليب الشعر العربي الفصيح، و"الحساني" الملحون، والذي يغنى وتتفق أنغام الموسيقى المعزوفة فيه (الشعر الحساني) مع بحوره المتعددة بشكل كبير، وحال هذا النشيد القديم يبقى كحال الموسيقى والغناء التقليديين بشكل عام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق