2014/12/05

نسبة التصوف (تحليل)

مما لا يختلف فيه: أن الفكر الصوفي حادث في الإسلام..!!. فقد مر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيل الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين، وتابعيهم رحمهم الله، دون أن يكون لهذا الفكر أثر واضح، حتى حدث وظهر في نهاية القرن الثاني، والصوفية يقرون بهذا، لكن من جهة اللفظ دون المعنى،  يقول النواوي:



"فأما كلمة التصوف، فقد أجمع الكاتبون في هذا المقام على: أنها من الكلمات الاصطلاحية، التي طرأت في أواخر القرن الثاني للهجرة".
فالصوفية يقرون بأن مصطلح (الصوفية) حادث. لكنهم يقولون: الأحوال الصوفية موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، تمثلت في أهل الصفة. ولأجله ذهب بعضهم إلى أن أصل التصوف مشتق من (الصُّفّة)، وهو مكان كان يأوي إليه الفقراء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ترجم منهم لأئمة التصوف: جعل أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضوان الله عليهم أوائل الصوفية، ونسب إليهم كلمات في المقامات والأحوال.
والوصف المشترك بين جميع من نُسبوا إلى التصوف من أئمة القرون الثلاثة الأولى هو: الزهد، والمجاهدة. الزهد في متاع الحياة الدنيا، ومجاهدة النفس لتهذيبها، ونفي عيوبها.
ونتيجة هذا: تمثل التصوف في الزهد والمجاهد. فكل زاهدٍ مجاهدٍ متصوفٌ، ومن له حال في الزهد والمجاهدة فهو: صوفي. هكذا قال بعضهم !!. لكنهم لم يتفقوا على رأي واحد في أصل كلمة "صوفية" واشتقاقها، فما قرره بعضهم نقضه آخرون، وقد رجعوا بالكلمة إلى أصول ستة أو سبعة، هي:
1-              الصفّة.
وبهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: "التصوف مأخوذ من أهل الصفة".
وقال الكلاباذي: "وقال قوم: إنما سموا: صوفية. لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال السهروردي: "وقيل: سموا صوفية. نسبة إلى الصفة.. وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي، ولكنه صحيح من حيث المعنى، لأن الصوفية يشاكلهم حال أولئك، لكونهم مجتمعين متألفين، متصاحبين لله، وفي الله، كأصحاب الصفة".
2-             الصفاء.
قال الكلاباذي: "قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها.
وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفا قلبه لله".
وقال السهروردي: "قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفيا".
وذكر نيكولسون: أن جمهور الصوفية ذهبوا إلى أن الصوفي مشتق من الصفاء، وأنه  أحد خاصة الله، الذين طهر الله قلوبهم من كدورات الدنيا.
3-              الصف الأول.
قال الكلاباذي: "وقال قوم: إنما سموا صوفية. لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه".
وقال السهروردي: "سموا صوفية، لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، بارتفاع هممهم، وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه"، كقول الكلاباذي.
4-              الصوف.
يقول الطوسي: " نسبوا إلى ظاهر اللبس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها مترسمون، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام، والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين".
ويقول السهروردي: "ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة، لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق، ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام…فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وسترة العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة، فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصراف همهم إلى أمر الآخرة، وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق، لأنه يقال: تصوف؛ إذا لبس الصوف، كما يقال: تقمص؛ إذا لبس القميص".
5-              صوفة.
ذكر ابن طاهر المقدسي القيسراني بسنده إلى الحافظ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المقدسي قال: "سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء نسب الصوفي؟، فقال: كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة، انقطعوا إلى الله عز وجل، وقطنوا الكعبة، فمن تشبه بهم فهم الصوفية.
قال عبد الغني: هؤلاء المعروفون بصوفة، هم ولد الغوث بن مر".
قال ابن الجوزي: "كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مؤمن مسلم. ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقا تخلقوا بها، ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، رجل يقال له: صوفة. واسمه الغوث بن مر، فانتسبوا إليه، لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، فسموا بالصوفية".
ثم ذكر أثر عبد الغني المقدسي الآنف الذكر، ثم قال: "وبالإسناد إلى الزبير بن بكار قال: كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، ثم كانت في ولده، وكان يقال لهم: صوفة. وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب: أجز صوفة. قال الزبير: قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان. يقال: لكل من ولي من البيت شيئا من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك، يقال لهم: صوفة وصوفان.
قال الزبير حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر صوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له صوفة، ولولده من بعده".
6-              صوفانة.
قال ابن الجوزي: "وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة، وهي بقلة رعناء قصيرة، فنسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء، وهذا أيضا غلط، لأنه لو نسبوا إليها لقيل: صوفاني.
وقال: آخرون: هو منسوب إلى صوفة القفا. وهي الشعيرات النابتة في مؤخره، كأن الصوفي عطف به إلى الحق، وصرفه عن الخلق".
7-              النسبة إلى جميع ما سبق: الصف الأول، والصفة، والصوف، والصفاء.
نحا إلى هذا الرأي الكلاباذي، حيث صحح نسبة الصوفية إلى جميع ما ذكر باعتبار المعنى، وإن كان يقر باستحالة ذلك لغة، قال:
-        "وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف، فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم، وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا...
-        ومن نسبهم إلى الصفة والصف الأول، فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم...
-   فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها، ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصححت هذه العبارات، وقربت هذه المآخذ.
-        وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر، فإن المعاني متفقة:
-        لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت: صفوية.
-        وإن أضيفت إلى الصف والصفة، كانت: صَفية، وصُفية.
-   ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية، وزيادتها في لفظ: الصَفية. والصُفية إنما كانت من تداول الألسن.
-        وإن جعل مأخذه من الصوف، استقام اللفظ، وصحت العبارة من حيث اللغة.
-         وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار".
وصنيع الكلاباذي ليس بغريب على النهج الصوفي، فقد رأيناه في كلام السهروردي  حينما قال: "قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفيا".
والملاحظ في كلامه ؟؟!!.. افتراض أن أصل الكلمة هي:
-        صَفيّة من الصف.
-        وصُفيّة من الصفة.
-         وصفوية من الصفاء.
وإنما انقلبت إلى (صوفية) بسبب تداول الألسن، حيث زادت الواو في: صَفيّة، وصُفيّة. 
وتبادل الواو والفاء المواقع في:صفوية..!!.
وهذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره.
*       *       *
- نقد الصوفية لهذه التعريفات.
أكثر هذه الأقوال رواجا: النسبة إلى الصفاء. فقد ذكر نيكلسون: أن مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى الصفة: اثني عشر تعريفا ينسبها إلى الصفاء، وذلك بالنظر في تعريفات الأئمة الصوفية، في الفترة الممتدة بين عام200 إلى 440 هـ، وقد نقلها في كتابه، ثم قال:
"يتبين من النظر في التعريفات أن الزمن الذي وضعت فيه يكاد يقرب من قرنين ونصف؛ لأن أولها هو تعريف معروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ، وآخرها تعريف أبي سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440هـ. ويتبين أيضا أنها تعريفات من أنواع مختلفة:
-        إذ منها الثيوسوفي المتصل بأحوال الصوفية.
-        ومنها المتصل بوحدة الوجود.
-        كما أن منها الأخلاقي اللغوي، وهو ما أشبه بالحكم.
وليس في عصرنا الحاضر من ينكر اشتقاق كلمة الصوفي من الصوف، ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها، سيظهر له في وضوح، أن الصوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي، فإنا نجد في مقابل كل تعريف، ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفا، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء".
فهذا ما اشتهر في تعريفات من تقدم من الأئمة المتصوفة: النسبة إلى الصفاء.
فهو التعريف الشائع المشهور، أما من بعدهم، فقد صاروا إلى ترجيح النسبة إلى الصوف، على الرغم من أن أئمة الصوفية لم يأبهوا لهذا الرأي، كما ذكر نيكلسون آنفا، وكما يذكر القشيري والهجويري.
ثم تأتي في المرتبة بعدهما النسبة إلى الصفة وإلى الصف الأول، فقد قال بها جمع من المتقدمين، لكن يبدو أن القائلين بالنسبة إلى الصفة أكثر.
وأما النسبة إلى الصوفة، فهي تأتي على معنيين:
-         الأول: نسبة إلى رجل يدعى: صوفة. وهو الغوث بن مر بن أدّ.
-        الثاني: نسبة إلى صوفة القفا، وهي: شعيرات مهملة في قفا الرأس.
فهذه النسبة، والنسبة إلى الصوفانة: بقلة تنبت في الصحراء. قد ذكرت، لكن ليس على ألسنة المتصوفة، وليس لها ثقل يوازي الأربعة الأولى، وإن كانت الأربعة فيما بينها متفاوتة، على ما سبق تفصيله.
ويلاحظ أن جميع النسب السابقة لا تصح لغة، باعتراف أئمة التصوف، وإن كان ثبوتها أو بطلانها لغة لا تشترط فيها شهادتهم، بل يرجع إلى اللغة، غير أن إقرارهم مفيد في كل حال.
يقول القشيري: "هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال: رجل صوفي. وللجماعة: صوفية. ومن يتوصل إلى ذلك، يقال له: متصوف. وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية: قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب.
-   فأما قول من قال: إنه من الصوف. ولهذا يقال: تصوف. إذا لبس الصوف. كما يقال: تقمص. إذا لبس القميص. فذلك وجه، لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
-        ومن قال: إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي.
-        ومن قال إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة.
-   وقول من قال: إنه مشتق من الصف. فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم، فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
ثم إنه هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ، واستحقاق اشتقاق".
يلخص القشيري رأيه في كلمات:
"وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية: قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب".
لقد رفض هذه النسب جميعا لغة واشتقاقا، ولم يأبه للنسبة إلى الصفة والصفاء من حيث المعنى، إلا الصف، فصحح المعنى، ورد الاشتقاق. وأما الصوف فقد صحح الاشتقاق منه لغة، لكنه حكم ببطلان النسبة إليه !!.. علل ذلك: بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
فالنسب كلها باطلة لغة إذن، يستثنى منها:
-        النسبة إلى الصوف.
-        والنسبة إلى صوفة.
فهاتان النسبتان صحيحتان لغة، لكن الثانية منها غير مشهورة، فأئمة التصوف، كالطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسهروردي وغيرهم، لم يذكروها ألبتة، فهي مطّرحة عندهم إذن، ويشكل عليها: أن لقب (صوفية) لم يعرف ولم يشتهر إلا في القرن الثاني، بينما هؤلاء الزهاد والعباد ظهروا في فترة مبكرة في القرن الأول في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فلو كان هذا اللقب مستمدا من هذا الاسم (صوفة) فلم لم يطلق عليهم في ذلك الوقت؟، ولم تأخر حتى منتصف القرن الثاني إلى نهايته؟. فالاسم (صوفة) موجود منذ الجاهلية، والمنقطعون الزهاد العباد موجودون، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم (صوفية) حتى حل القرن الثاني، ومر نصفه، ثم بدأ هذا الاسم بالظهور، كما ثبت بالبحث التاريخي، فهذا مما يضعف هذه النسبة.
-        فلم تبق نسبة صحيحة منها، من حيث اللغة، سوى النسبة إلى الصوف.
فهذه مقبولة لغة، أما من حيث المعنى فقد رُدّت كذلك بأقوال أقطاب التصوف، كالقشيري والهجويري، وإن كانت مقبولة عند غيرهما كالطوسي والسهروردي.
والنتيجة التي نخرج بها من هذا العرض: أن الصوفية لم يتفقوا على نسبة معينة، فإذا اطرحنا ما ثبت بطلانه لغة، وهو الواجب، لأنه لا وجه لإثبات نسبة خاطئة لغة إلا سفسطة، بقيت النسبة الصحيحة لغة: (الصوف). وهذه أيضا لم تسلم من النقد والرد، وكان علة ذلك، كما ذكر القشيري: أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به. قال: "القوم لم يختصوا بلبس الصوف".
وهذه شهادة خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين، العارفين بأحوال بدايات التصوف، حيث عاش في القرنين الرابع والخامس (377-465)، فهو من الجيل الثالث أو الرابع، والتصوف إنما نشأ في هذه الأجيال الممتدة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، وكل ما لم يكن في هذه الفترة فليس من التصوف قطعا؛ لأن أهلها هم أئمة المذهب، وواضعوا أسسه، لا يختلف على هذا أحد.
ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنا لم نسمع بإمام صوفي انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه (الرسالة) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟!.
بل سايره على هذا الرأي، ووافقه: إمام آخر معاصر له هو الهجويري ، حيث قال: "واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى، لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده، وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق